لم يغب موريس عواد (1934 ــ 2018) أمس. رحل قبلُ عن نفسه وعن العالم، ثلاثَ مرات. alt="موريس عواد رحل من الفقر إلى «كفرغربي»"
الثلاثاء ١١ ديسمبر ٢٠١٨
جريدة الاخبار-حبيب يونس
١١/١٢/٢٠١٨
لم يغب موريس عواد (1934 ــ 2018) أمس. رحل قبلُ عن نفسه وعن العالم، ثلاثَ مرات.
الأولى حين خلع عنه اسم شهرته «الخوري»، ليصبح موريس عواد.
لم ينته النقاش الطويل هنا، وكنت أسأله: من دلَّ الآخر إلى الشعر؟ عقل أم طراد؟ فيجيب عواد: «سعيد دلّ ميشال. ويخطئ من يظن العكس. هل تعتقد أن السنديانة تتأثر بالياسمينة النابتة على كعبها. سعيد هو السنديانة. أشبهه بكاتدرائية مثلاً، فيما ميشال كابيلا. الكابيلا حلوة. حين تدخل كاتدرائية تجسد العظمة، تحس أنك صغير قدام عظمتها. وحين تدخل كابيلا تحس أنها تنتظرك وأنك تملأها. في الكابيلا الكثير من الصلاة، والإيمان والطفولة. كلتا الكاتدرائية والكابيلا «منيحة»، وحين أريد الصلاة أقصد الكابيلا. لكنني أرتاد الكاتدرائية للسياحة».
والثانية حين ترك كل شيء وتبع إله الكتابة، شعراً ونثراً، ينصرف إليه متعبداً، أكثر من اثنتي عشرة ساعة في النهار، هو الذي يعرف معنى الترهبن، إذ كاد في مراهقته يلتحق بالرهبنة اليسوعية حيث تلقى علومه الابتدائية في إحدى مدارسها.
أما الرحيل ما قبل الأخير، فحين ترك المنزل الوالدي في بصاليم، مسقطه الذي «لم يقرأ أي من أهله حرفاً واحداً له» كما يقول. باعه ليبني بيتاً في جورة البلوط... واخترع قرية انتمى إليها سماها «كفرغربي»، وعاش فيها نحو خمسة عشر عاماً، وقد أوصى بأن يُنعى «موريس كفرغربي (عوَّاد)».
هو الشاعر الأكثر غزارة في الإنتاج بـ«اللغة اللبنانية»، وقد«فرَّخ على كعب» كبيرين في الشعر سعيد عقل وميشال طراد، وكان يدرك منذ العام 1963، تاريخ صدور ديوانه الأول «أغنار»، الصادر عن مجلة «شعر» عام 1963، أن الشعر لن يوفر له إلَّا الفقر لمئة عام مقبلة.
مذ عرفته، عام 1970، إلى آخر لقاءين بيننا، في الأسبوعين المنصرمين، لم يتغير. كأن السؤال الأول الذي طرحته عليه في صغري، كان محور كل أحاديثنا اللاحقة: من أثر فيك أكثر؟ سعيد عقل أم ميشال طراد؟
ولعل الإجابة المدونة في حديث طويل أجريته معه، وضمَّه إلى كتابه «خلّو النار والعا»، هي الفيصل. قال: «ميشال طراد شاعر كبير، وهو أبي في الشعر. وديواني «أغنار» فيه منه الكثير. تعرفت إليه عام 1957 في غزير حين كنت أعمل لدى اليسوعيين قبل الظهر لأعتاش، وبعد الظهر لأدرس. كان ثمة كاهن يسوعي حلبي اسمه بولس الياس شوكت. سألني ذات مرة: أتكتب الشعر؟ أجبته: لا، ما الشعر؟ فأعطاني ثلاثة كتب «أنتيغون» لسوفوكل، و«المجدلية» لسعيد عقل، و«جلنار» لميشال طراد. قرأت «المجدلية» وحفظته عن ظهر قلب في ليلة واحدة، وقد يكون من أعظم ما كتب بالعربية. وحين شرعت في قراءة «جلنار»، قلت بيني وبين نفسي: «هـ الزلمي بيكتب متلما منحكي». وتأثرت به مذذاك. وتأثرت طبعاً بسعيد عقل الذي أخذت عنه العظمة والنبل والشفافية والصعوبة».
طوينا بذلك صفحة البدايات، لنفتح صفحة أهمية موريس عواد في الشعر. إنه ديوانه الثاني «قنديل السفر» الذي صدر عام 1970، ونال عنه جائزة سعيد عقل الشهرية. وإذا كان «جلنار» طراد الفتح الأول الذي أعطى الشعر اللبناني العامي هويته، فقنديل عواد، وما تبعه من دواوين، هو الفتح الثاني المهم، قبل الفتح الثالث مع جوزف حرب في «مقصّ الحبر»، من دون أن يبخس هذا التصنيف حق شعراء كانت لهم ميزتهم وفرادتهم وأهميتهم، في هذا المجال.
ومذذاك، لم يغب موريس عواد سنة عن النشر، إلا نادراً، خصوصاً في عز الحرب في نهاية العقد السابع من القرن العشرين.
لم يغره أنه حاز عن «قنديل السفر»، عام 1970، جائزة عقل التي كان يتمناها كثر. جعلته يحس بالعظمة وفي الوقت نفسه بمسؤولية الكلمة. وعلى الرغم من ذلك، لم يبقَ بحاراً يجذف في أسطول سعيد عقل، بل اختار لنفسه منه زورقاً صغيراً، «شلح» قميصه، وجعل منها شراعاً وراح يصارع الموج في بحر الحبر الواسع، ليكون هو إياه، ويوقع «هون موريس عواد».
مسيرة من أكثر من 60 كتاباً، كلها بـ«اللغة اللبنانية» التي جعل منها قضيته، لأنها «اللغة التي بها أحلم وأصلي وأحاكي طفليَّ»، وراح يصدر أغلفة كتبه بعبارة «زيحو هيك، إجا وقت اللغا اللبنانيي، وأنا جيت».
لم يكتف بالشعر. طرق باب النثر من بابه الأجمل، بابه الشاعري. ولعل كتابه «حكي غير شكل» الصادر عام 1973، يختصر قوة نثره، إذ قيل فيه إنه «أقوى كتاب صدر من ربع جيل».
وقد يكون كتابه النثري الأقرب إليه والذي يمثله، سيرته الذاتية «... وكان عمري سبعتعش» وفيه يبرز ذاك الصراع بين «موريس الدير وموريس اللذة»، أي بين الراهب الذي كان سيكونه، والشاعر الذي صاره لاحقاً. أما إذا اختليت به، ليفصح أكثر عن الكتاب الأقرب إليه، فكان يحيلك على «طعمة الخبز والمرا»، بجزءيه، وفيه عصارة ما آمن به وعمل من أجله، من حيث نظرته إلى الحياة وإلى المرأة.
وقد يخيل إلى البعض أن موريس عواد مجرد شاعر. لا، كان باحثاً أيضاً، وقد كتب سيرة غير مسبوقة عن يوسف بك كرم، عنوانها «هادا هو الرجال»، مستنداً فيها إلى وثائق ومخطوطات، تجعل منه مؤرخاً أيضاً، فضلاً عن حوارات متخيلة عن آخر أيام السيد المسيح على الأرض، في كتاب «إجت الساعا يا بيي»، لكنها مرتكزة على قراءات لاهوتية معمقة. ولا ننسى كذلك عمله الدؤوب طوال سنوات على كتاب «أنطولوجيا الشعر اللبناني» الضخم، الذي جمع فيه نماذج من شعراء لبنانيين، وبوّبه بحسب الحقبة والنوع والأهمية.
أما في الرواية والمسرح، فله أكثر من عمل. «أماريس» قدمت على مسرح «كازينو لبنان» عام 1988، و«التصويني» رواية عن راهبة تصلح مسرحية أو مسلسلاً أو فيلماً سينمائيّاً، من دون أن نغفل مشاركته في مسرحيات لروميو لحود «موال»، و«الشلال»، و«القلعة»، حواراتٍ وأغانيَ (سنأتي على ذكرها لاحقاً)، ومساهمته في كتابة حوارات مسرحية «صانع الأحلام» لريمون جبارة ومنير معاصري التي تولى الشاعر الزجلي جريس البستاني نظم قرادياتها وموشحاتها.
وكيف لشاعر أن «يتورط» في المسرح؟ كان يجيب: «لم أتورط. الشعر لا يتسع لكل شيء. الشعر شكل مضغوط، حيث يوضع الكثير في القليل. الشعر نقطة عطر لا يمكن أن تحمِّلها أكثر مما هي. هي نقطة تختصر مئة زر ورد».
سألته ذات مرة، مذ راح ينكب على ترجمة الكتاب المقدس ورؤيا يوحنا وأعمال الرسل إلى اللبنانية: أتصلي؟ أجاب: «لا أصلي. قهري صلاة، ضياعي، غربتي، شرودي في هذا العالم. غربتي عني، عن أهلي وضيعتي، الصراع بيني وبين نفسي، بين أمسي ويومي، بين حاضري والموت. أعدُّ كل هذا صلاة».
كأني به، في «كفرغربي»، كان يريد الهرب. إلى أين؟ فيجيب: «أهرب إلى الأبدي الذي لا ينتهي. من الزمنية إلى الأبدية. الزمنية لم تعطني قدر ما أضَعت. قد تكون الزمنية والأبدية موجودتين الواحدة منهما في الأخرى. ولكن أحسني هارباً إلى «الما بينتهي»، وأتمنى ألا أكون موهوماً، فأجد ما يملأني ولا أعود محتاجاً إلى شيء».
لم يكتف بترجمة المقدس. سبق ذلك لبننته كتاب «الأمير الزغير» لأنطوان دو سانت إيكزوبري، وله في خياره هذا تبرير ذاتي. يقول: «هو كتاب أحبه. أنا أعيش حواراً داخليّاً. أحب الحوار في حياتي. ثمة صراع. ثمة واحد ضدي، كتبت عنه في قصة حياتي. موريس الدَّير الذي كاد «يتجزوت»، وموريس اللذة الذي يريد أن يقيم علاقة بامرأة أوته مطلع شبابه. الأول يرى في ذلك خطية. وهذا الصراع مستمر في داخلي. وما زلت متأثراً بمفهوم الخطية».
وما بالك بالنفس الملحمي غير النرجسي. شاء موريس عواد أن يختصر نفسه باسم أو خط، فكان كتاب «الموريسيادا»، الحركة الأولى من «ملحمة لبنانية شعرية»، كما عرف به. وكانت أيضاً دواوين من المناخ الملحمي «آخ»، «رجال بوجّ الريح»، «وينك تعا»، «ألوان مش ع بعضا»، «حفّ ع الإيام». وما لم يتسع له الشعر، حمل ريشته اللاذعة الساخرة، وضمنه «نقاقيط عرق ع الورق»، و«موريسيّات»، وكتباً أخرى لمح إلى عناوين لها أذكر اثنين منها «أوطى من المماسح» و«الصِّباط».
ترجمت أعمال له إلى الفرنسية والبولونية ورشح قبل عامين إلى جائزة نوبل للآداب، على أن إرثه الشعري والنثري طاول في همومه وقلقه الإنسانية جمعاء، وحاكى القيم الإنسانية «التي بتراجعها، راح الشعر يتقهقر»، فـ«الشعر ملح الشعب». يبقى، في هذه العجالة، ثلاث إضاءات، على الشاعر «الغريب» الذي رحل أول من أمس عن 84 عاماً. قد يكون أول من كتب أناشيد وطنية «يمينية» (إذا صح التعبير)، في مقابل موجة الأغاني اليسارية التي سادت منذ العام 1970. وله في هذا المجال مجموعة أغنيات أحيا بها حزب الكتائب «مهرجان العنفوان» في ملعب برج حمود عام 1980، وكانت موجهة إلى الشيخ بيار الجميل، وراح آخرون في ما بعد يستخدمونها لقادة آخرين، وقد وضع ألحانها جميعاً الياس الرحباني: «يا موسع الساحات»، «من هاك الملعب ما نسينا»، «حمرا ومكتوبي بالنار»، «ع الصخر منحفر كتائب»... وله أغنية في بداية عهد الرئيس أمين الجميل «يا صديقي مبارح بالزمان المالح»، اشتهرت بداية «حرب الجبل» في أيلول (سبتمبر) 1983.
كتابه النثري الأقرب إليه «...وكان عمري سبعتعش» يبرز ذاك الصراع بين «موريس الدير وموريس اللذة»
ثم إنه تميز بشعر الأغنيات، وشكَّل مع وليد غلمية ثنائيّاً أنتج روائع لبنانية، منها لصباح «شو بدِّي أعمل قلي»، و«درجي دوسا دوبارا»، ولجوزف عازار «قالو انطوى سيف البطل»، «صرتو ع العالي صرتو ونسيتو الناس»، «لو أنا زهرا»، و«عرشك مرمر ما بيتكسَّر» (التي «تبناها» العاهل الأردني الراحل الملك حسين نشيداً له)، ولسمير يزبك «وينك يا خيَّال نزال» و«لملم قش اليابس كلو»، فضلاً عن أغانٍ أخرى لصباح «شفتو بالقناطر» ولهدى حداد «بيرقنا ع الجبل» (من ألحان الياس رحباني)...
تبقى اللغة والحرف... في أدبه. وهو إذ لم يعتمد في نتاجه حرف سعيد عقل، حافظ على الحرف العربي، لكنه راح يعمل فيه «تطويراً»، بما يجعل كل حرف يُكتب يُلفظ، ليس إلا، فتخلى مثلًا عن القاف واستبدل به الهمزة على كرسي الياء، وألغى أل التعريف لمصلحة الـ «ل» وحدها. حتى صعب على البعض قراءته. لكنه كما يقول هو: «الأدب يكتب بأي لغة وبأي حرف ولو كان روادهما قلة، ويكون أدباً عالميّاً يصدر تحفاً».
موريس عواد الذي رحل وفي قلبه غُصص كثيرة، خصوصاً على «الشعب الذي يدخِّن مارلبورو ويفكر تاطلي»، أو على من يعتمر «البيروك»، فيخلع مساء حذاءين «من فوق ومن تحت»، أو على «سلامة» الذي كان يدعو الجميع أن يحلوا عنه، فلا يجعلون كل شيء يمر عليه (مرَّت على سلامة)... موريس هذا الطريف الساخر كان «مريض حكي»، ينتفض إذا زقزق عصفور وهو يتلو شعراً أو يحاضر. حين يكتب، فحسب، لا تفارق أذنه الموسيقى الكلاسيكية وكان عاشقًا لبيتهوفن وموزار وباخ.
رحل وما زالت في جعبته أعمال كثيرة، سيصدرها نجلاه لاحقاً، وما زال صدى عبارته يتردد في أذني «في رأسي أفكار كثيرة، أعيد صياغتها مرات ومرات، ويا إيدي لحقي ع دماغي». «بوسي بوستين تلاتي» لروح موريس عواد الذي حمل أوراقه ورحل، وهو يردد «القمح قليل. الهموم صغيرة، والشعراء شهود زور، خافوا من الفقر. من يخشَ الفقر لا يمكنْ أن يكون شاعراً كبيراً. الفقر لا يخيف».
*شاعر لبناني
.حضر المغدور لقمان سليم في عظتي البطريرك الراعي والمطران عودة اللذين أجمعا على رفض اغتيال الرأي الآخر
.المحرر السياسي- خرج الجدل في تشكيل الحكومة بين جبهتي قصر بعبدا وبيت الوسط عن دائرة الاهتمام الشعبي ليتحوّل هذا الجدل الى "رفاهية سياسية" في زمن الانهيارات والانسدادات