في ذكرى أمين الريحاني تنشر ليبانون تابلويد نصا للأستاذ ميشال معيكي كتبه مشاركا في "مؤتمر حول فكر الريحاني" ، في قرنة شهوان، العام ١٩٩٩. alt="استلهام أمين الريحاني في زمن التقوقعات المذهبية والظلامية"
الإثنين ١٤ سبتمبر ٢٠٢٠
ميشال معيكي- في مثل هذه الأيام، من العام ١٩٤٠ ، تركنا أمين الريحاني، القامة النهضوية، صاحب الفكر التنويري-الإنساني.
نستلهم فكره في أزمنة الجهالة- الظلامية والتقوقعات المذهبية!
ثم قال كلمته ومشى.
***
(نص ورقة مشاركتي في مؤتمر حول فكر أمين الريحاني، قرنة شهوان ١٩٩٩)
"تستحيل الإحاطة بشخصية أمين الريحاني وفكره ورؤاه.
فهو هادر متعدد الروافد والينابيع، لا نفيه حقه مهما تدارسناه!واجتهدنا.
وتحلو استعادة مشاهد من الوجه الآخر لأمين الريحاني.
مشهد أول:
الزمن ١٨٨٤- زقاق تحت بيت فارس الريحاني في الفريكة، ومعلم من بيت شباب، طربوش أحمر وغنباز ديما وعصا يحملها وراء ظهره، يحفر بها حروف المعرفة ، في رؤوس الصبيان ... وعلى سيقانهم.
ويردد الصبيان "كرجا" مبادئ العلم طيلة النهار تحت السنديانة أو شجرة اللوز، وفي القبو حين عصفُ الشتاء يشتد من القاطع ومهاوير وادي الفريكة.
يقف الأمين الصغير في حضرة فارس الريحاني يلبط الأرض:" لن أتعلم بعد اليوم عند واحد يريد أن يضربني..."
مشهد ثان:
"في ذلك الزمان"، كان نعوم مكرزل "ملفان معرفة" وحجة علم. قالوا : نرسل الصبي اليه. يتلقى العلوم!
نعوم مكرزل، صندوق فرجة معارف جوالة...من عين عار الى مارجرجس بحردق- الشاوية فالفريكة! لقط الصبي الحرف، حفظ المزامير وما تيسر من الفرنسية...
يزور قنصل فرنسا ضاحية المتن صوب بيت شباب، يعرج على مدرسة نعوم، ويلقي الأمين كلمة ترحيب بالفرنسية، دفعت القنصل لتقديم منحة دراسية له في فرنسا!رفض الريحاني ، كانت أميركا بالبال!
مشهد ثالث:
طفولة الأمين، الولد البُلط، الرذيل يعربش على أشجار البطم والتين، يُصلي دبوقا للحساسين وعصافير العابور، يقضم البلوط ويعبّ من العين للتحلية، يقفز الغنباز الصغير بين حفافي القندل والوزال والطيون.. يعرّج على بيت الحرير، بناته يسحبنّ الحرير من الخلقين، يقلدهنّ ويحرق الأصابع، تعجبه بنت يشد تنورتها ويتفرّج على الدنيا!
مشهد آخر:
في تلك الفترة "خف الشغل" في بيت الحرير، واشتدت المنافسة بسبب استيراد الحرير الاصطناعي الياباني ، قرر فارس الريحاني وشريكه أمين هاشم بيع كرخانة الحرير، ولاحت الأرض الجديدة، حلما ملوّنا...
مشهد آخر
١٨٩٨-يعود الأمين الى لبنان، ينزل عند جدته أم فارس، يلحق بمدرسة المطران الزغبي في قرنة شهوان، يدرس الإنكليزية ويتعلم العربية عن الخوري بطرس البستاني.
ذات ليلة، في كبسة مسائية على التلاميذ النيام، وجد قرب سرير الأمين صابونة أميركية، استغرب شكلها، وسأل الأمين فأجاب:" نوع من الجبنة الأميركية اللذيذة، جرّبها! فكدش نصفها...والباقي مفهوم.
مشهد آخر
١٩٠٣ – نشر " المحالفة الثلاثية في المملكة الحيوانية"، حوارية نقدية لاذعة على غرار ابن المقفع ولافونتين، وتناول رجال الدين بقساوة.
صدر الحرم من البطريرك الحويك، ويوم عاد الى لبنان عام ١٩٠٤ ابتعد عنه أهل الفريكة وخافوا دخول "الكافر". كتب الى البطريرك الحويك:
" أشكر لك هذا الحرم، لقد صرت وحيدا، أستطيع أن انصرف للكتابة!".
وقامت القيامة على الأمين، حتى أن الأب شيخو اليسوعي قال فيه مرة:" جرذون الفريكة"كما ذكر لي الأديب الراحل جورج مصروعة...
يوم توفي الأب شيخو، كتب الريحاني مؤبنا، في رسالة غير منشورة بتاريخ ٢٧ كانون الأول ١٩٢٧:" حملتَ كتاب الصلاة في جيبك الأيمن، ومعجم الهجاء في الآخر. ضمّدت بالورع جروحك، ونثرت الملح على جروح الآخرين!".
مشهد آخر:
كثيرون اعتبروا حملة اليسوعيين بدافع من الانتداب، ردا على مواقف الريحياني العنيفة، المطالب بالاستقلال، فشوّهوا حملته على مستغلي الدين في عملية ابتزاز لم تنجح. يقال في عهد ويغان عرَض عليه الانتداب سرا تولي رئاسة الجمهورية، فرفض!
مشهد آخر:
وفي العام ١٩٣٣ في التياترو الكبير وقف الريحاني بحضور المفوض السامي الكونت دو مارتيل وألقى خطبته النارية "بين عهدين":
"... من الجاسوسية الحميدية انتقلنا الى دائرة الاستخبارات الانتدابية...من عهد عبد الحميد الى عهد دو مارتيل السعيد/فهل تقدمنا؟هل قلّ الجهل؟ هل خفّ التعصب؟(...)ان بلاءنا من السياسة الانتدابية ومن عبيدها المأجورين ..."
وما أن شارف على نهاية الخطاب حتى هبّ عسكر الانتداب لاعتقاله، وقامت تظاهرة تأييد رافقته حتى بيت أخته أدال في شارع كليمنصو، ويسبقه قرار المفوض السامي بالإبعاد خلال ٤٨ ساعة باعتباره يحمل جواز سفر أميركيا.
نزل الأمين في ضيافة غازي ملك العراق ثلاثة أشهر، عاد بعدها بعد تدخلات، مصطحبا بالطائرة هدية من الملك، خروفا أسماه "الطيار".
وفي إحدى رسائله لمارون عبود (١١ نيسان ١٩٣٤) بعد عودته من المنفى، كتب يقول :" وسيجيئ يوم، نرى المُستعمِر حاملا مدفعه وطبله وزمره وكيسه الفارغ وراحلا، راحلا...".
وكان عبود كتب متضامنا:" ما أرى هذه الأمة الا مفلته من نير لتقع تحت نير..." ويرد الأمين:" الغد لنا يا مارون..الغد لنا".
مشهد أخير:
صبي الغنباز "المهوشل" في حواكير الفريكة والشاوية، يسأله معلم المدرسة بأصبعه على اللوح ، فيرد الأمين بسرعة، هذا اصبع وسخ على لوح أسود.
ولد شقي ، بُلط ، رذيل، خلّفته أم أمين ، صار فيلسوف الفريكة.
نفتقد الأمين، قامة فكرية، عنيدا حرا حرا، مناضلا، وطنيا، كاتبا ، مثقفا تمثّل روح الشرق وعقل الغرب، شاعرا صوفيا".
.حضر المغدور لقمان سليم في عظتي البطريرك الراعي والمطران عودة اللذين أجمعا على رفض اغتيال الرأي الآخر
.المحرر السياسي- خرج الجدل في تشكيل الحكومة بين جبهتي قصر بعبدا وبيت الوسط عن دائرة الاهتمام الشعبي ليتحوّل هذا الجدل الى "رفاهية سياسية" في زمن الانهيارات والانسدادات